الأحد، 8 ديسمبر 2013

وسط الزحام ( قصة قصيرة )


   يوم سبت أرذل, درجة حرارة 43, شمس تطل بتحدٍ واضح وسافر وكأنها تنتقم, جموع من البشر قرروا فجأة أن يقتحموا الشارع وفى ساعة واحدة؛ فى ميدان رمسيس يتجسد العذاب ويمشي على قدمين.

   كنت قد ارتديت قميصي الأبيض القطني تفادياً لأشعة الشمس اللاهبة, يقولون _وأنا غالباً ما أصدق ما يقولون_ أن اللون الأبيض ليس في الحقيقة لوناً ولا يحزنون؛ لكنه عديم اللون فلذلك لا تمتصه الشمس بعكس اللون الأسود الجاذب لها، فإذن لن تلصق الشمس بلهيبها الأصفر فيّ، وعلى كل حال ظللت اشعر بالحرارة، لكني ايضاً متمسك بما يقولون. وعلى قميصي الأبيض ارتديت بنطالي الكحلي القاتم وساعة تلتف على يدي المتعرقة تتململ فى شكوى معتادة, متأبطاً ملفاً يحمل سيرتي الذاتية كما يطلبون؛ في الوظيفة الشاغرة التى طالما أبحث عنها.
   كنت كفتى مغامر فى لعبة وأنا أسير محاولاً أن أتفادى طلقات البشر المتجهة نحوي عن عمد أو بقوة الدفع؛ من يفاجئك بمروره بشكل متعرج أمامك, من تمضي بجانبك متأففة لاعنة صنف الرجال بسبب الأيدي التى تلامسها من حينٍ لآخر, وهذا الذى يمسح عرقه الغزيرالنابت على رأسه الأصلع الممطر بمنديله الورقي بتأنٍ بينما هو جالس ينتظر الفرج, وأنا من بينهم أسير بخطوات متعجلة وجبهتي تعلوها طبقة كثيفة من العرق المختلط بالغبار, الوجوه مكفهرة ورغم هيئتهم الرثة والمقززة احياناً؛ إلا أنك قد لا تشعر نحوهم بالإشمئزاز أو توجيه اللوم لهم بقدر ما تشعر بالشفقة لحالهم.

   كان حظي سعيداً حينما لمحت الأتوبيس العام الذى يحمل الرقم الذى أبحث عنه, كنت فى غير ذلك أنتظره لأوقاتٍ طويلة, الحمد لله هذه المرة جاء بعد نصف ساعة فقط منذ وصولي؛ وهذا من حسن حظي. ركضت تجاهه وقد كنت حينها أتخطى مرحلة متقدمة أصعب من تلك اللعبة العنيدة, تشبثت به وبعد محاولات ومشاكسات عنيفة تمكنت بحمد الله من الإنزلاق داخله, وقد إطمئن قلبي على حصولي على "إسكور" ممتاز لهذه الجولة.

   مررت نظري على الحافلة بأكملها؛ ليس طبعاً من أجل إيجاد كرسى خالي؛ فلست متفائلاً إلى هذه الدرجة, فذلك لا يحدث, قلما تجده, وكأن الناس تبيت فيها, بل كنت أبحث عن مكان مناسب أمكث فيه حتى أحتفظ بشىء من مظهري وثيابي قبل موعدي فى المقابلة الشخصية للوظيفة المأمولة. كانت الناس فى الحافلة تتبعثر منهم رائحة الشقاء والكد؛ فهموم حياتهم وإن كانوا يجاهدون لإخفائها إلا إنها تتضح جلية بتركها علامات خفية على وجوههم. في تلك اللحظة كنت قد تمكنت بخفة من الوقوف بجانب النافذة التى وجدت أن من اللطيف أن اشغل نفسي بالنظر إليها خلاصاً من الوقت الممل.. فوقفت وتأملت.

   إنتبهت فجأة من شرودي على الوقوف المفاجىء للحافلة, وهو انتباه إضطراري كلدغة عقرب, حيث إنني قد إرتطمت بالكرسي الذي أمامي وكل الواقفين مثلي فى الحافلة وهم أكثر ممن يجلسون بكثير, الكل إرتطم ببعضه البعض؛ رجالاً ونساءاً كتلة واحدة, مسلمون وأقباطاً يتطابقون على بعضهم البعض, حيث هنا لا تفرقة فعلاً بين الأجناس والأعراق والأديان, وربما قد كافأ لص ما نفسه بإنتشال محفظة فى هذه الحركة, وربما كانت حجة مقبولة لأن يلتصق شخص ما بإمرأة تقف بجواره فيميل بجسده وتتحرك يداه نحوها, بل وربما يلقي بجسده كله إليها وكأنه لا يقصد, بماذا سيستفيد هذا المعتوه من حركة كهذه اصلاً؟!

   كانت الحافلة قد توقفت وسط الزحمة غير قادرة على إختراقها, نظرت ثانيةً من النافذة وقد تراصت السيارات فى الطريق فلمحت منهم سيارة تقف بمحاذاتنا, كانت سيارة فارهة سوداء اللون قلما أشاهد مثلها في تلك البقعة من الأرض، حتى إعتقدت لوهلة بأنهم قد جاءوا عن طريق الخطأ فباغتتهم الزحمة وإنغلق الطريق عليهم فجأة كأنه المصيدة! وراقني هذا الإحتمال كثيراً فأبتسمت؛ كان بداخلها مجموعة من الشباب وقد أغلقوا الزجاج عليهم بعدما رأيت واحداً منهم قد بدأ يتأفف وقال شيئاً ما للجالس يقود السيارة, فخمنت إنهم أغلقوا الزجاج لكي يشعلوا التكييف, لكن لم يغب عني مجال الرؤية بعد, ورأيت واحداً منهم قد بدأ يوزع عليهم "كانز" من المياة الغازية المثلجة وسرعان ما بدت على وجوههم علامات الأرتواء والأنتعاش, وما لبثت أن بدأت الموسيقى الغربية الصاخبة فى التسرب من سيارتهم السوداء الفارهة حتى بدأت فى الغرق بين أمواج شرودي.

   ما الفارق بينى وبينهم وهم شباب فى مثل عمري؟ خلقت مثلما خلقوا, ولكن طريقنا كان مختلفاً ربما, هؤلاء ما هى كل مشاكلهم؟ مرض الكلب بيسو,عطل فى تكييف السيارة, تأخر نزول ألبوم مطربهم المفضل, الحيرة الشديدة المتمثلة فى إختيار ماركة الموبايل الجديد, حقاً إنها مشاكل معقدة.. و بلا حل!!

   فطنت حينها بأن حيز المكان الذي أقبع فيه الآن, لا يفرق بين الأجناس والأعراق والأديان, لكن وحدها الطبقات هي التي تتفرق في هذه البقعة.

   تتابعت على ذهني الأسباب التى صنعت تلك الفجوة الرهيبة؛ ورحت أفكر فى قطار الرأسمالية الفاسدة الذى صحبنا معه منذ عدة عقود وعربة قيادته التى تتسرب إلينا قهقهاتها, بينما نتخبط نحن _ركاب القطار_ إثر منعطفاتها المتكررة والتى لا يلقي لها بالاً أي ممن فى مركز القيادة. ورحت أترحم على أيام ما قبل الرأسمالية والتى كان فيها المواطن فوق الدولة يظلله زعيم. لم ألبث كثيراً فى التفكير حتى تذكرت أن الكلام في السياسة ممنوع _حتى وإن كان مع نفسي_ فآثرت الصمت.

   إنفرج الطريق بالتدريج حتى إنفتح تماماً, وإنتبهت إلى أصوات التهليل الصادرة من شباب السيارة الفارهة السوداء وهم يصفقون ويضحكون بعصبية ويخبطون كفوفهم ببعض فرحاً بإنفراج الطريق, ثم حولت نظري عن النافذة وإنتبهت لداخل الحافلة, كان هناك من ينفخ فى الهواء من شدة الحر, ومن يخرج مناديله يجفف بها عرقه, وما إن انفرج الطريق حتى أطلق كل منهم تنهيدة طويلة وهو يتمتم بحمد الله.

....  تمت

خالد عيد
khaled.eider@yahoo.com
2\6\2013
4:52 عصرا

.....  تمت

خالد عيد
khaled.eider@yahoo.com
2\6\2013
4:52 عصرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق